الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

حديث في جمال اللغة العربية.. بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

  • سيف الحموري - الكويت - الخميس 17 مارس 2022 09:24 مساءً - الفصحى - رغم كوارث نتعرض لها - رباط يشد الأمة إلى بعضها ويوثق علاقتها بباقي أطراف الأمة الإسلامية
  • حركات الغرباء ازدادت نشاطاً في أوساط مثقفينا فصاروا يقدمون لهم السم في الدسم ويزينون لهم انسلاخهم عن لغتهم وتاريخهم
  • الدعوة إلى العامية قديمة من قبل غرباء كان همهم هدم الفصحى لأنها لغة القرآن وأمة الإسلام.. بعدما ارتدوا رداء الفكر والثقافة
  • هل نترك الميدان لمن يحاول هدم ثوابتنا من دين ولغة ويشتتنا لما يريده من محو الفصحى وإحياء اللهجات المتعددة؟
  • الهجمة الضارية الأخيرة التي اتخذت اللهجة العامية قناعاً لها جاءت بعد أن مضى أفاضل علماء الأمة الذين كانوا يدافعون عن لغتهم

للغة العربية جمال أخاذ، وفي أساليبها ومخارج نطقها ما تنفرد به دون غيرها من اللغات. ويكفي أنها لغة القرآن الكريم، ولغة هذا الفيض الزاخر من الشعر والنثر الذي وصلنا من الناطقين بهذه اللغة منذ ما قبل الإسلام إلى ما بعده، ولعل من المهم أن نختار هنا نماذج شعرية تدل على ذلك، وتدل في الوقت نفسه على مقدرة الشاعر العربي على الإجادة منذ بدأ في نظم الشعر إلى أن جاء الإسلام فصار شعره أكثر رقة فقد تأثر شعراء العرب - ولا شك - بكتاب الله عز وجل الذي ورد فيه: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). أما ما قاله الشعراء فإننا نقدم نماذج له هنا، لأن الشعر المختار قد لا يمكن الحصول عليه دائما بعكس القرآن الكريم الذي نراه - بحمد الله - بين أيدينا دائما. 

ونسوق في البداية من الشعر ما يلي:

أولا: ثلاثة أبيات جميلة لها حكاية نوردها أولا، ذلك أن الخليفة العباسي المأمون قد سأل أحد علماء اللغة والأدب العربي المتقدمين عن (أخلب) بيت قالته العرب، بمعنى أكثر بيت آخذا بمجامع القلوب، فأنشده ذلك الراوية أبيات حمزة بن بيض التي يمتدح فيها الحكم بن أبي العاص وهي:

تقولُ لي، والعيُونُ هاجِعَةٌ

أقِمْ علينا يوما، فلم أُقِمِ

أيَّ الوجوهِ انتجعتَ قلت لها:

وأيَّ وجهٍ إلاَّ إلى الحكَمِ

متى يَقُل صاحبَا سُرادقه

هذا ابن بيض بالبابِ يَبتَسِم

ثلاثة أبيات جامعة لمعان لطيفة، وألفاظ جميلة.

(هاجعة: نائمة، انتجعت: قصدت، السرادق: المجلس كأنه خيمة).

ينتمي حمزة بن بيض إلى قبيلة حنيفة التي تنتمي إلى بكر بن وائل، توفي سنة 734م وكان شاعرا مجيدا، يتردد شعره على الألسنة، يسكن الكوفة. وكانت الأبيات مع التعليق عليها مما ورد في كتاب لسان العرب لابن منظور. وبحسب ما جاء في هذا الكتاب، فإننا إذا قارنا تاريخ ميلاد الشاعر بتاريخ الحكم العباسي وجدنا أن الحكم سابق في الميلاد بنحو أربع وثمانين سنة، ما يوحي بأن الحكم المقصود بالشعر غير هذا. وكان الحكم الذي ذكره صاحب اللسان ممن أسلم يوم الفتح، وسكن المدينة بعد إسلامه، وقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لجريرة ارتكبها، ثم أعاده عثمان بن عفان رضي الله عنه حين استخلف. وبقي فيها إلى أن مات بعد أن كف بصره وذلك في سنة 32هـ التي توافق سنة 652م.

>>

ومن جميل الشعر قول الشاعر الجاهلي علباء بن أرقم الذي ينتمي إلى قبيلة بكر بن وائل، وكان قد بدأ قوله هذا بذكر ما كان يدور بينه وبين زوجته من مشاحنات، فيصف المواقف المتشنجة بينهما وصفا دقيقا ومؤثرا. وهذا ما يجعلنا نختار بداية قصيدته هذه للدلالة على حسن التعبير. وسوف نترك له باقيها لأن هذا الباقي فيه اعتذار للملك النعمان بن المنذر. وكان هذا الملك قد أطلق كبشا في البرية وأعلن حمايته له، وأنذر كل من يمسه بسوء أنه سوف ينكل به. ولسوء حظ الشاعر فقد أمسك بهذا الكبش ونحره، وأطعم أصحابه من لحمه. وعندما علم النعمان بما حدث جلب إليه الشاعر الذي ألقى هذه القصيدة على مسامعه، وفيها بعد البداية التي أشرنا إليها اعتذار عما بدر منه تجاه الكبش. وهذه القصيدة مذكورة في مجموعة الأصمعيات لعبد الملك بن قريب الأصمعي تحت رقم 55. وفي بدايتها يقول:

أَلا تِلكُما عِرسي تَصُدُّ بِوَجهِها

وَتَزعُمُ في جاراتِها أَنَّ مَن ظَلَمْ

أَبَونا، وَلَم أَظلِم بِشَيء عَمِلتُهُ

سِوى ما تَرَينَ في القَذالِ مِنَ القِدَمْ

فَيَوماً تُوافينا بِوَجهٍ مُقَسَّمٍ

كَأَنْ ظَبيَةٍ تَعطو إِلى ناضِرِ السَّلَمْ

وَيَوماً تُريدُ مالَنا مَعَ مالِها

فَإِن لَم نُنِلها لَم تُنِمنا وَلَم تَنَمْ

نَبيتُ كَأَنّا في خُصومٍ عَرامَةً

وَتَسمَعُ جاراتي التَأَلِّيَ وَالقَسَم

فَقُلتُ لَها إِن لا تَناهَىْ فَإِنَّني

أَخو النُكرِ حَتّى تَقرَعي السِّنَّ مِن نَدَمْ

(القذال: شعر مؤخر الرأس، وجه مقسم: جميل، تعطو: تتناول، والسلم شجر معروف، العرامة: الشراسة والعنف، التألي: الحلف، تناهي: تتركي ما تقومين به، النكر: الدهاء والفطنة).

>>

وللشاعر المشهور: الشريف الرضي أبيات رائعة قالها في قوم يبدو أنهم كانوا يتصفون بالكبر وعدم التواضع للناس ناسين أنهم كغيرهم عرضة لتقلبات الزمان، فهو يراقبهم عندما تقصفهم الخطوب، فيقترب منهم النحس الذي يحل بهم، لأن الدهر لا يبقي الأمور على حالها بل هو دائم التغيير، والشاعر يقول للمخاطبين إن حبائل الدهر منصوبة، فلا يغرنكم انفلاتكم منها، فإنها ستمسك بكم يوما ما. لقد ارتفع شأنكم، وعلوتم على غيركم حتى تسنمتم الذري، فاصبروا على مهواتها حين تهوى بكم فتسقطون أرضا.

وَقَفنا لَهُم مِن وَراءِ الخُطو

بِ نُطالِعُهُم مِن خَصاصاتِها

وَنَرقُبُ يَوماً كَأَيّامِها

وَليلَةَ نَحسٍ كَلَيلاتِها

فَإِنَّ عَصا الدَهرِ لَمّا تَدَع

سِياقَ الأُمورِ لِغاياتِها

وَإِنَّ الحَبائِلَ مَنصوبَةٌ

فَلا تُستَغَرّوا بِإِفلاتِها

تَسَنَّمتُموها طِوالَ الذُّرىَ

فَصَبراً عَلى بُعدِ مَهواتِها

ثم يسأل هؤلاء الناس، ويعلق على تساؤله، فيقول:

أَلَم تَعلَموا أَنَّ أَيّامَكُم

تُعَدُّ إِلى حينِ ميقاتِها

فَكَيفَ وَثِقتُم بِأَعوامِها

وَنَحنُ نَضِنُّ بِساعاتِها

ويوجه حديثه - بعد ذلك - إلى شخص يخاطبه عن هؤلاء المغترين بدنياهم:

فَلا تَطلُبَنَّ لَهُم عَثرَةً

سَتَأتيهِمُ هِيَ مِن ذاتِها

تَمُرُّ اللَيالي عَلى نَهجِها

وَتَجري الخُطوبُ لِعاداتِها

قدم الشريف الرضي في هذه الأبيات أفضل ما يدل على شاعريته، ومقدرته على خطاب المخالفين، وتسلسل في حديثه لهم مقدما الأدلة القاطعة بأسلوب يجمع بين اللطف والجزالة. وقد أثبت بذلك أنه متمكن من لغته، ومن درايته بأساليب القول. والشريف الرضي هو محمد بن الحسين، ينتمي إلى الطالبيين، وكان من أعلى شعرائهم مكانة. ولد في بغداد سنة 1015م، وله ديوان شعر مطبوع في مجلدين، كما أن له كتبا أخرى في الأدب واللغة. وألف عنه د.زكي مبارك كتابا بعنوان: «عبقرية الشريف الرضي».

>>

هذه ثلاثة نماذج من الشعر الجميل الذي تناقله الرواة بإعجاب شديد، ولا يزال محفوظا في الكتب التي تولى أصحابها جمع هذا التراث الشعري الذي يشهد لقائليه بالتفوق، وجودة الحس.

ولقد رأينا فيما تقدم صورة باهرة تدل على جمال اللغة العربية الفصحى ومقدرة شعرائها على صياغة المعاني الراقية بعبارات ذات موسيقى شعرية مطربة. وهي - كذلك - تجذب القلوب والأذهان إليها إعجابا بها كلما رددت. وبالطبع، فإن هذه المقطوعات المطروحة هنا نماذج للشعر العربي الجميل، ونحن إذا تتبعنا الآثار الأدبية العربية وجدنا كنوزا زاخرة بكل ما يثير الإعجاب، فهناك شعر غزير برع أصحابه في تدبيجه، واهتم الرواة بجمعه حتى وصلت إلينا مجموعات فاخرة حفظته إلى يومنا هذا.

وإذا أردنا أن نذكر جميع هذه المجموعات فإن إيراد أسمائها كاملة سيكون صعبا للغاية لأن ذلك أمر يطول بسبب كثرتها ولكننا نجمل منها - هنا - ما يلي:

1 - المفضليات للمفضل الضبي.

2 - الأصمعيات لعبدالملك بن قريب الأصمعي.

3 - الحماسة لأبي تمام.

4 - منتهى الطلب من أشعار العرب لمحمد بن مبارك بن ميمون.

5 - جمهرة أشعار العرب لمحمد أبي الخطاب القرشي.

6 - مختارات هبة الله بن الشجري.

وكفى بذلك دليلا على ما أشرنا إليه.

>>

وبيت القصيد في هذا المقال هو ما سوف يأتي هنا بعد كل ما تقدم من تصوير لجانب من الجوانب التي تميزت بها لغة العرب الفصحى. وقد كان ذلك تمهيدا لابد منه من أجل الوصول إلى ما نريده، ومن هنا نبدأ:

تفضل أخي الكريم الشيخ سلمان دعيج الصباح - حفظه الله - فلفت نظري - مشكورا - إلى مقال تم نشره في إحدى الصحف، فقرأت هذا المقال ووجدته كما يلي:

- كان منشورا في صحيفة الشرق الأوسط الواسعة الانتشار وذلك في يوم الخميس الموافق السابع عشر من شهر فبراير لسنة 2020م الجارية.

وكان يتعلق بما ألمحت إليه في مواضع مختلفة، فقد كان يأخذ على أبناء العروبة أنهم صاروا اليوم يبتعدون عن لغتهم الفصحى الأصيلة، ويتجهون إلى اللهجات العامية الدارجة كل منهم بحسب موقعه ولهجته، مع تناسي ما في ذلك من ضياع للغة الأم.

وكان المقال مكتوبا بقلم أستاذة جامعية دل ما كتبته على تمكنها الرائع من مادتها التي تخصصت بها، كما دل على إخلاصها الواضح لأمتها وللغتها. وهي الأستاذة بقسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية: سوسن الابطح.وتعبيرا عن إعجابي بموقفها الأصيل هذا، فإنني أجد من الواجب علي أن أشيد بها، وباهتمامها هذا، وأن أعرض لقراء «الأنباء» ما كتبته، لأنني أرى في ذلك دعما لاتجاهها السليم نحو الدفاع عن لغتنا الفصحى في مقابل الهيجان الداعي إلى إهمالها والاتجاه إلى اللهجات العامية بدلا منها، مع أن الفصحى هي لغة القرآن الكريم، ولغة الأدب العربي والأمة العربية جمعاء، وهي التي تجمع شتاتنا اليوم على الرغم من الكوارث التي نتعرض لها، وتتعرض لغتنا لها، فهي رباط يشد الأمة إلى بعضها، ويوثق علاقتها بباقي أطراف الأمة الإسلامية التي ترى في لغتنا ما نراه فيها من أهمية وجلال.

وهنا أستطيع أن أوجز ما قالته الأستاذة الفاضلة في مقالها عن طريق اختيار فقرات خمس تدل عليه. وهي كما يلي:

أ - بدأت بعرض المشكلة، ثم ألحقت ذلك بسؤال استنكاري سببه ما تشير إليه بدايتها فقالت:

«حسناً، لا مشكلة في أن تصدر ترجمة رواية «الغريب» لكامو بالعامية المصرية، وقبلها أصبحت «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري بالعامية أيضا، ولحقت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» بالركب وهي التي زودتنا بالذخائر على مدى تاريخها العريق، لتصدر «بالختم الكيني» لشيرين هلال بالمحكية المصرية، فهل سترى «تاريخ الطبري» باللبنانية والجزائرية والسودانية، مثلا؟ وماذا عن الأحاديث والتفاسير، وفتاوى الأئمة»؟ وأشارت الكاتبة بعد هذا إلى تزايد النشر باللهجات العامة، كما أشارت إلى تزايد الدعاة إلى استعمالها. وذكرت أن هؤلاء الدعاة يذكرون لنا دائما أننا فقدنا الصلة بالفصحى؟ وهذا على خلاف الواقع، وأشارت - أيضا - إلى أن هؤلاء الذين يتحدثون إلينا في وسائل الإعلام المختلفة مثيرين دعواهم هذه إنما يتحدثون باللغة الفصحى لعلمهم بأنه من غير الممكن وصولهم إلى كل المستهدفين إذا كان الخطاب الموجه منهم وفق لهجاتهم، وذلك بسبب تعدد اللهجات كما سيأتي.

ب - وهي تأخذ على هؤلاء الذين يحملون على اللغة الفصحى فيدعون «أنها تجمدت ونتاجها شحيح، ومصطلحاتها غير دقيقة، ولأنها لغة أمة لا تنتج بفصحاها». ثم تتساءل: هل تصبح أدمغة أهلها أكثر ذكاء بعاميتهم؟ وتترك الإجابة عن هذا السؤال لأنها واضحة جدا. ثم تقول: إن هناك دلائل جليلة على أن اللغة حياة متكاملة، وحينما نفكر فإننا نتكلم، وربما نرسم، ونعزف الموسيقى. ونضيف إلى ذلك قولها: إن الموضوع لا يحتمل هذا التبسيط المطروح، ففي ذلك جناية على اللغة ذاتها، خاصة حين ننظر إلى تعدد اللهجات في البلد العربي الواحد، ثم توجه سؤلا إلى من يدعي أن تعلم الفصحى صعب على الأجنبي بخاصة، هل له أن يخبرنا ما طريقته العظيمة لتعليم العامية لغير المتعلمين بها؟

ج - وتحدثت الكاتبة في هذه الفقرة من مقالها عن أن اللوم الذي يوجه إلى المطبلين للعامية ينبغي أن يوجه مثله للقائمين على الفصحى أنفسهم. ومن الملاحظ أنها وصفت أهل الفصحى بصفات قاسية حين قالت عنهم إنهم: «أولئك الذين يقفون لك عند كل زاوية، ليصححوا مفرداتك، حتى حين تكون صحيحة، ويصرون على اجتهاداتهم النحوية، ومعجمهم الذي تحنط منذ العصر العباسي، مع أن الألفاظ المشتركة مع العامية متوافرة وغزيرة». وأنا أفهم - جيدا - ما تشير إليه الكاتبة الفاضلة، لأن هؤلاء الذين تعاني منهم، ومن ادعاءاتهم، قد عانيت - أنا الآخر - منهم، مع أن تخصصي هو النحو والصرف والعروض، فهؤلاء لا يحسبون على علماء اللغة بل هم - في الغالب - العاملون في التصحيح الصحافي. أما ما يتعلق بالمعجم العربي، فإنني أظنها تقصد المعجم الذي يديرونه هم في أذهانهم. لأن مجامع اللغة العربية في دولنا التي نشأت فيها مجامع قد أخذت على عاتقها الاهتمام بهذا الأمر بما في ذلك استحداث ما يحتاج إليه الكتاب والقراء من مفردات لأمور مستجدة. ويكفينا أن ننظر إلى المعجم الوسيط الذي أنجزه مجمع اللغة العربية في مصر، وطبعت طبعته الثانية في سنة 1973م، في مجلدين كبيرين قام بإخراجهما أربعة من كبار المشتغلين باللغة العربية وهم د.إبراهيم أنيس والشيخ عطية الصوالحي، ود.عبدالحليم منتصر، والأستاذ محمد خلف الله أحمد، ولي الشرف أن الأول والثاني من هؤلاء كانا من أساتذتي في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة.

وأما إشارتها إلى الألفاظ الفصيحة المشتركة مع العامية، فهذا أمر لا شك فيه، وأود أن أذكر هنا كتابين من تأليفي خصصتهما لهذا الغرض، وهما:

1 - ألفاظ اللهجة الكويتية في كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت.

2 - ألفاظ اللهجة الكويتية في كتاب لسان العرب لابن منظور. ففيهما التأكيد على وجهة نظرها.

وأما إشارتها إلى طرق تدريس اللغة العربية، خاصة من ذلك النحو، فهذا أمر يحتاج إلى مزيد من الإيضاح، وإلى ما يسميه علماؤنا: وضع النقاط على الحروف، لأنها فيما يبدو لم تستكمل حديثها عنه، أو على الأقل لم تزده إيضاحا. وأتى في آخر هذه الفقرة ما أسعدني، وجعلني أطمئن إلى أن لغتنا قد وجدت أخيرا من يهتم بها حين قالت:

«ولن تصبح الفصحى جزءا من وجداننا الحي. تلك مسألة تحتاج خططا وطنية شاملة، هي جزء من البنية التحتية للدولة، تماما، كما شبكة المياه والكهرباء والإنترنت والطرق. اللغة في إنسانيتنا وتواصلنا وراءها يختبئ ميلنا للعنف، وتحبيذنا لأدوات شرسه حين تقصر عن ترجمة ما نريد».

د - وفي هذه الفقرة إشارة مهمة إلى أمرين لابد من ذكرهما هنا كما أتيا في المقال المشار إليه وهما:

- قولها: «الكتابة بالعامية تحريض على الانطوائية، رفضها طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، الذي اعتبر أن للعامية عدة لهجات في البلد الواحدة وقد لا يفهم سكانه بعضهم بعضا، بسبب اختلاف اللهجات المحلية، هذا عدا أن العامية تتحول مع الأجيال، فمن هو في الستين اليوم، قد لا يفهم العديد مما يتداوله من هم في العشرين. والشقة تكبر بسرعة، بسبب التكنولوجيات».

- إشارتها إلى اهتمام اليهود بلغتهم العبرية التي كانت شبه منقرضة، وذلك بإحيائها بعد قرون من التواري، وفي هذا الشأن تقول الأستاذة سوسن الأبطح: «بذل اليهود جهودا مجنونة لإحياء عبرية منقرضة لم تكن موجودة إلا في بطون الكتب الدينية، وبعض دور العبادات اليهودية، ولولا ذلك لما عرفت طريقة نطق حروفها والأصوات». الترجمة الحقيقية لهذا المشروع الفريد، لم تبدأ عمليا إلا مع وجود المستعمرات الأولى لليهود في فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي، وكان بمقدورهم تبني الإنجليزية الجاهزة القوية المنتصرة، والتواصل مع العالم أجمع، من دون نبش في التراث، ونحت في الألسن لكنهم أدركوا أنها هويتهم الوحيدة الممكنة، ومن دونها لن يكونوا شيئا يذكر».

هـ - وفي الفقرة الأخيرة نرى إنذارا تقدمه لنا الكاتبة يخبرنا بما سيحل بلغتنا إذا تساهلنا في مسألة الحفاظ عليها، وذلك لأننا كما قالت: «من دون العربية نتحول إلى فئات أمة مشرذمة، لا قيمة اقتصادية لها، ولا وزنا اجتماعيا. لغة حية فتية في المرتبة الرابعة عالميا على الإنترنت، وقبل الفرنسية، رغم كل ما يشاع، (هي) من اللغات القليلة المعتمدة في الأمم المتحدة يفهمها شئنا أم أبينا أربعمائة مليون شخص، لو بسطنا التخاطب بها. ومع ذلك نلفظها بجلدها، ونعلن الطلاق منها، فهل بقي للعرب غير لغتهم المشتركة؟ وما الذي سنجنيه بعد أن نصبح كأهل برج بابل، الذين وقع عليهم سخط السماء، فتبلبلت ألسنتهم، وتفرقوا في الأرض». هذا هو المقال الذي سرني أن أعرضه هنا، آملا أن يجد له صدى عند الأمة كافة، وعند علمائها خاصة، وأن يلتفت بسببه أبناء اللغة العربية إلى لغتهم لأنها هي الجامع لهم، وفي ضياعها ضياعهم.وينبغي - أخيرا - أن أشكر الأستاذة سوسن الأبطح على مشاركتها الإحيائية هذه، وأتمنى منها المزيد، وهي - فيما أرى - قادرة على ذلك. كما أتوجه إلى أخي الكريم الشيخ سلمان دعيج الصباح بالشكر الجزيل على لفته لانتباهي نحو هذا المقال المهم الذي فتح لي مجال المشاركة في موضوع إحياء اللغة العربية، فجزاه الله تعالى كل خير.

>>

الحديث عن المحاولات المشؤومة التي تبذل اليوم في سبيل إحلال العامية محل العربية الفصيحة حديث مؤلم، حيث إنه يدل على خضوع عدد من أبناء أمتنا إلى أعداء هذه الأمة، وسماعهم إلى الأقوال التي ينفثها هؤلاء الأعداء من صدورهم لأسباب قصدوا بها الوصول بنا إلى مرحلة الضياع.

ولقد ازدادت - مؤخرا - حركات الغرباء الذين ازداد نشاطهم في أوساط مثقفينا، فصاروا يقدمون لهم السم في الدسم، ويزينون لهم ما به يكون انسلاخهم عن لغتهم وتاريخهم، بل ودينهم، فنحن اليوم في مرحلة من المراحل التي تدعو إلى التأهب لرد كيد الكائدين، والمحافظة على لغتنا وديننا وكياننا. ومما يؤسف له أن الهجمة الضارية الأخيرة التي اتخذت اللهجة العامية قناعا لها قد جاءت بعد أن مضى أفاضل علماء الأمة الذين كانوا يدافعون عن لغتهم، ويضعون الأسوار أمام كل من يخترقها، ويقومون بتعرية كل من تحدثه نفسه بالمساس بها. ولقد كان من أبرز هؤلاء شيخي الأستاذ محمود محمد شاكر الذي كتب كثيرا من البحوث والمقالات مدافعا بها عن لغة القرآن ينحي فيها باللائمة على كل من يجنح إلى الكتابة بالعامية، ومن ذلك ما ورد في المقال الذي نشرته له مجلة الثقافة في شهر نوفمبر لسنة 1978م. وكان يتحدث فيه عن نجيب محفوظ، وأسلوبه في الكتابة، ويذكر ما أورده أحد المستشرقين الذين أخذوا على عاتقهم هدم اللغة العربية وكان مما أخذه على نجيب محفوظ أنه يضمن رواياته ببعض العبارات القرآنية. ونقل الأستاذ أبو فهر ما كتب الألماني ولهم سبيتا خلال القرن التاسع عشر في كتاب ألفه داعيا فيه أبناء مصر إلى ترك الكتابة باللغة العربية الفصحى، وكتابه كل ما يريدون باللهجة العامية وقال في مقدمة كتابه: «وأخيرا سأجازف بالتصريح عن الأمل الذي يراودني على الدوام طوال مدة جمع هذا الكتاب، وهو أمل يتعلق بمصر نفسها، ويمس أمرا هو بالنسبة لها وإلى شعبها يكاد يكون مسألة حياة أو موت. فكل من عاش فترة في بلاد تتكلم العربية، يعرف إلى أي حد كبير تتأثر كل نواحي النشاط فيها، بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة». إذن، فإن الدعوة إلى العامة دعوة قديمة، وهي إلى جانب ذلك إنما بدأها الغرباء الذي - بالتأكيد - قد جعلوا همهم هدم اللغة العربية الفصحى لأنها هي لغة القرآن الكريم، وهي لغة أمة الإسلام. وهم بصفتهم جنودا من جنود التبشير قد جعلوا همهم هو هذا، وقد اتخذوا زياً خلاف واقعهم فارتدوا رداء الثقافة والفكر. وأهم من هذا كله أن نشير إلى أن الله - جل شأنه - قد وجهنا إلى أن كتابه الكريم نزل بلسان العرب الفصيح، وهذا معناه أن على كل مسلم أن يتقن هذه اللغة حتى يقرأ كتاب الله، ويدرك معانيه، ويتلوه في صلاته، وفي كل زمان. ولقد امتن سبحانه وتعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب الكريم الذي أنزله عربيا حتى تعقله الأمة التي بعث الرسول الكريم بين ظهرانيها، فيستطيع كل مسلم أن يحيط به. وقد ورد ذلك في اثني عشر موضعا من آيات الله عز وجل، ومنها قوله تعالى:

- «(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) سورة يوسف، الآية رقم (2).

- (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون) (28) سورة الزمر.

- (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) سورة الأحقاف، الآية رقم (12).

أليس في كتاب الله سبحانه وتعالى ما يكفينا لكي نتمسك بهذا اللسان العربي الذي جاء القرآن الكريم به، وصار معجزة من معجزات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فهل نترك الميدان لمن يعبث بنا، ويحاول هدم ثوابتنا من دين ولغة، بل ويشتتنا نتيجة لما يريده من محو العربية الفصحى وإحياء اللهجات المتعددة. وعن طريق الاعتماد على اللهجات يتم القضاء على اللغة الأم، وبذا يتم القضاء على الأمة بأسرها بعد أن تتفتت وتتشرذم، لأن كل بلد من بلدانها سيكون عبارة عن كيانات متباعدة فكريا وروحيا، وذلك بسبب تعدد اللهجات في البلد الواحد.

هذا هو ما يريده أعداؤنا، وهو عندهم أهون من خوض الحروب، التي خسروها منذ أيام الحروب الصليبية. وهذا ما ينبغي أن ننتبه إليه.

Advertisements